فصل: قال صاحب الأمثل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما أن المسلمين ابتلوا بأمثال ما ابتليت به هؤلاء الأمم فهذه الابتلاءات بالنظر إلى طبيعتها الكونية ليست إلا حوادث ساقتها يد التدبير الإلهى سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا، وبالنظر إلى حال المسلمين المبتلين بها فيما كانوا على طريق الحق لم تكن إلا امتحانات إلهية وفيما انحرفوا عنه من قبيل النكال والعذاب، وليس لاحد على الله كرامة ولا لمتحكم عليه حق ولم يثبت القرآن لهم على ربهم كرامة، ولا عدهم أبناء الله وأحباءه، ولا اعتنى بما تسموا به من أسماء أو ألقاب.
قال تعالى مخاطبا لهم: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} إلى أن قال: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين} (آل عمران: 144)، وقال تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا} (النساء: 123).
وفي الآية أعنى قوله: {قل فلم يعذبكم بذنوبكم} وجه آخر وهو أن يكون المراد بالعذاب الأخروي، والمضارع «يعذبكم» بمعنى الاستقبال دون الاستمرار كما في الوجه السابق فإن أهل الكتاب معترفون بالعذاب بحذاء ذنوبهم في الجملة: أما اليهود فقد نقل القرآن عنهم قولهم: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} (البقرة: 80) وأما النصارى فإنهم وإن قالوا بالفداء لمغفرة الذنوب لكنه إثبات في نفسه للذنوب والعذاب الذي أصاب المسيح بالصلب والاناجيل مع ذلك تثبت ذنوبا كالزنا ونحوه، والكنيسة كانت تثبته عملا بما كانت تصدره من صكوك المغفرة.
هذا.
لكن الوجه هو الأول.
قوله تعالى: {بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما واليه المصير} حجة ثانية مسوقة على نحو المعارضة محصلها: أن النظر في حقيقتكم يؤدى إلى بطلان دعواكم أنكم أبناء الله وأحباؤه، فإنكم بشر من جملة من خلقه الله من بشر أو غيره لا تمتازون عن سائر من خلقه الله منهم، ولا يزيد أحد من الخليقة من السماوات والأرض وما بينهما على أنه مخلوق لله الذي هو المليك الحاكم فيه وفي غيره بما شاء وكيفما شاء وسيصير إلى ربه المليك الحاكم فيه وفى غيره، وإذا كان كذلك كان لله سبحانه أن يغفر لمن شاء منهم، ويعذب من شاء منهم من غير أن تمانعه مزية أو كرامة أو غير ذلك من ان يريد في شيء ما يريده من مغفرة أو عذاب أو يقطع سبيله قاطع أو يضرب دونه حجاب يحجبه عن نفوذ المشيئة ومضى الحكم.
فقوله: {بل أنتم بشر ممن خلق} بمنزلة إحدى مقدمات الحجة، وقوله: {ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما} مقدمة أخرى وقوله: {وإليه المصير} مقدمة ثالثة، وقوله: {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} بمنزلة نتيجة البيان التي تناقض دعواهم: أنه لا سبيل إلى تعذيبهم. اهـ.

.قال صاحب الأمثل:

استكمالا للبحوث السابقة التي تناولت بعض انحرافات اليهود والنصارى، تشير الآية الأخيرة إِلى أحد الدعاوى الباطلة التي تمسك بها هؤلاء، فتقول: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه}.
ولم يكن هذا الإِمتياز الوهمي الذي ادعاه اليهود والنصارى لأنفسهم هو الوحيد من نوعه، إِذ أن القرآن الكريم قد أشار في آيات عديدة إِلى أمثال هذه الإِدعاء.
ففي الآية (111) من سورة البقرة، أشار القرآن إِلى ادعائهم الذي زعموا فيه أن أحدًا غيرهم لا يدخل الجنّة، وزعموا أن الجنّة هي حكر على اليهود والنصارى، وقد فند القرآن هذا الادعاء.
كما جاء الآية (80) من سورة البقرة إدعاء آخر لليهود، وهو زعمهم أن نار جهنم لن تمسهم إِلا في أيّام معدودة، وقد وبخهم القرآن على زعمهم هذا.
وفي الآية الأخيرة يشير القرآن الكرم إِلى ادعائهم البنوة لله، وزعمهم أنّهم أحباء لله، ولا شك أن هؤلاء لم يعرّفوا أنفسهم كأبناء حقيقيين لله، بل إنّ المسيحيين وحدهم يدّعون أن المسيح هو الإِبن الحقيقي لله، وقد صرحوا بهذا الأمر وأنّهم حين اختاروا لأنفسهم صفة البنوة لله وأدعوا بأنّهم الله إِنما ليظهروا بأن لهم علاقة خاصّة بالله سبحانه، وكأنّهم أرادوا كل من ينتمي إِليهم انتماء قوميًا أو عقائديًا يصبح من أبناء الله وأحبائه حتى لو لم يقم بأي عمل صالح.
وواضح لدينا أنّ القرآن الكريم حارب كل هذه الإِمتيازات والدعاوى الوهمية، فهو لا يرى للإِنسان امتيازًا إِلاّ بالإِيمان والعمل الصالح والتقوى، ولذلك تقول الآية الأخيرة في تفنيد وإِبطال الإِدعاء الأخير: {قل فلم يعذبكم بذنوبكم} فهؤلاء- بحسب اعترافهم أنفسهم- يشملهم العذاب الإِلهي حيث قالوا بأن العذاب يمسّهم لأيّام معدودة، فكيف يتلاءم ذلك الإِدعاء وهذا الإِعتراف؟ وكيف يمكن أن يشمل عذاب الله أبناءه وأحباءه؟! ومن هنا يثبت أن لا أساس ولا صحة لهذا الإِدعاء، وقد شهد تاريخ هؤلاء على أنّهم حتى في هذه الدنيا ابتلوا بسلسلة من العقوبات الإِلهية، ويعتبر هذا دليلا آخر على زيف وبطلان دعواهم تلك.
ولكي تؤكد الآية الكريمة زيف وبطلان الدعوى المذكورة استطردت تقول: {بل أنتم بشر ممن خلق} والقانون الإِلهي عام، فإِن الله: {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}.
وبالإضافة إِلى ذلك فإِنّ كل البشر هم من خلق الله، وهم عباده وأرقاؤه، وعلى هذا الأساس ليس من المنطق إِطلاق اسم «ابن الله» على أي منهم، حيث تقول الآية: {ولله ملك السموات والأرض وما بينهما}.
وفي النهاية تعود المخلوقات كلها إِلى الله، حيث تؤكد الآية هنا بقولها: {وإِليه المصير}.
وقد يسأل البعض: أين ومتى ادعى اليهود والنصارى أنّهم أبناء الله حتى لو كان معنى البنوة في هذه الآية هو معنى مجازي وغير حقيقي.
الجواب هو أنّ الأناجيل المتداولة قد ذكرت هذه العبارة، ويلاحظ ذلك فيها بصورة متكررة، من ذلك ما جاء في إِنجيل يوحنا في الإِصحاح 8- الآية 41 وما بعدها، حيث نقرأ على لسان عيسى في خطابه لليهود قوله: «إِنّكم تمارسون أعمال أبيكم، فقال له اليهود: نحن لم نولد من الزنا وإِن أبانا واحد وهو الله! فقال لهم عيسى: لو كان أبوكم هو الله لكنتم أحببتموني...». اهـ.

.قال ابن كثير:

قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يرد عليه، فتلا الصوفي هذه الآية: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}.
وهذا الذي قاله حسن، وله شاهد في المسند للإمام أحمد حيث قال: حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن حُمَيْد، عن أنس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يُوْطَأ، فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني! وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار. قال: فَخفَّضَهُم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لا والله ما يلقي حبيبه في النار». تفرد به. اهـ.

.قال في البحر المديد:

الإشارة: قوله تعالى: {فلِمَ يعذبكم بذنوبكم} أي: فلو كنتم أحباءه لما عذبكم؛ لأن الحبيب لا يعذب حبيه، حُكي عن الشبلي رضي الله عنه أنه كان إذا لبس ثوبًا جديدًا مزقه، فأراد ابن مجاهد أن يعجزه بمحضر الوزير فقال له: أين تجد في العلم فساد ما ينتفع به؟ فقال له الشبلي: أين في العلم: {فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [صَ: 33]؟ فسكت، فقال له الشبلي: أنت مقرئ عند الناس، فأين في القرآن: إن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فسكت ابن مجاهد، ثم قال: قل يا أبا بكر، فقرأ له الشبلي قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالْنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاؤُاْ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} [المَائدة: 18]، فقال ابن مجاهد: كأني والله ما سمعتها قط. اهـ.
وقال ابن عجيبة:
وفي الحديث: «إذا أحَبَّ اللهُ عبدًا لاَ يضُرُّه ذَنبٌ»، ذكره في القوت. وفي المثل الشائع: «من سبقت له العناية لا تضره الجناية». وفي الصحيح «لعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أهلِ بَدرِ فَقَالَ: افعَلُوا مَا شِئتم فَقَد غَفَرتُ لَكم»، وسببه معلوم، وفي الوقت عن زيد بن أسلم: «إن الله عز وجل ليحب حتى يبلغ من حبه له أن يقول له: اصنع ما شئت فقد غفرت لك». وفي القصد للشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه قال: يبلغ الولي مبلغًا يقال له: أصحبناك السلامة، وأسقطنا عنك الملامة، فاصنع ما شئت. اهـ.
وقال ابن عجيبة:
وليس معناه إباحة الذنوب، ولكنه لمّا أحبه عصمه أو حفظه، وإذا قضى عليه بشيء ألهمه التوبة، وهي ماحية للذنوب، وصاحبها محبوب، قال تعالى: {إن الله يحب التوابين}. والله تعالى أعلم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}.
البنوة تقتضي المجانسة، والحقُّ عنها مُنضزَّهٌ، والمحبةُ بين المتجانسين تقتضي الاحتفاظ والمؤانسة، والحق سبحانه عن ذلك مُقدَّس.
فردَّ الله سبحانه عليهم فقال تعالى: {بَلْ أَنْتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ}.
والمخلوق لا يصلح أن يكون بعضًا للقديم؛ فالقديم لا بعضَ له لأن الأحدية حقه، فإذا لم يكن له عدد لم يجز أن يكون له ولد. وإذا لم يجز له ولد لم تجز- على الوجه الذي اعتقدوه- بينهم وبينه محبة.
ويقال في الآية بشارة لأهل المحبة بالأمان من العذاب والعقوبة به لأنه قال: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم}.
ويقال بيَّن في هذه الآية أن قصارى الخلْق إمَّا عذاب وإمّا غفران ولا سبيل إلى شيء وراء ذلك. اهـ.

.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}.
في الكلام لف وإيجاز يحال المستمع على تفريقه بذهنه وذلك أن ظاهر اللفظ يقتضي أن جميع {اليهود والنصارى} يقولون عن جميعهم: {نحن أبناء والله وأحباؤه} وليس الأمر كذلك بل كل فرقة تقول خاصة {نحن أبناء الله وأحباؤه} والبنوة في قولهم هذا بنوة الحنان والرأفة، وذكروا أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن أول أولادك بكري فضلوا بذلك وقالوا {نحن أبناء الله وأحباؤه} ولو صح ما رووا لكان معناه بكرًا في التشريف أو النبوة ونحوه، وأحباء جمع حبيب، وكانت هذه المقالة منهم عندما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به وخوفهم العذاب، فقالوا نحن لا نخاف ما تقول لأننا {أبناء الله وأحباؤه} وذكر ذلك ابن عباس، وقد كانوا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في غير ما موطن نحن ندخل النار فنقيم بها أربعين يومًا ثم تخلفوننا فيها، فرد الله عليهم بقولهم فقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {قل فلم يعذبكم بذنوبكم} أي لو كانت منزلتكم فوق منازل البشر لما عذبكم وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا على أن التعذيب هو بنار الآخرة، وقد تحتمل الآية أن يكون المراد ما كان الله تعالى «يعذبهم» به في الدنيا. وذلك أن بني إسرائيل كانوا إذا أصاب الرجل منهم خطيئة أصبح مكتوبًا على بابه ذكر ذنبه وذكر عقوبته فينفذ ذلك عليه فهذا تعذيب في الدنيا على الذنوب ينافي أنهم أبناء وأحباء. ثم ترك الكلام الأول وأضرب عنه غيره مفسد له ودخل في غيره من تقرير كونهم بشرًا كسائر الناس، والخلق أكرمهم أتقاهم، يهدي من يشاء للإيمان فيغفر له ويورط من يشاء في الكفر فيعذبه، وله ملك السماوات الأرض وما بينهما، فله بحق الملك أن يفعل ما شاء لا معقب لحكمه وإليه مصير العالم بالحشر والمعاد. اهـ.